في أحد الأيام سألتني إحدى الطالبات
في محاضرة مادة الطرق الكمية في صناعة القرار: "يا دكتور، هل فعلًا سنحتاج كل
هذه المعلومات والأدوات والطرق في سوق العمل؟ وهل سنطبّق كل ما نتعلّمه؟"
توقّفت لحظة وفكّرت: السؤال في ظاهره عن المعادلات والأدوات والطرق، لكنه في جوهره
عن معنى الجامعات ودورها. فالحقيقة أنّ سوق العمل لا يطلب منّا ترديد كل صيغة
حفظناها، بل يختبر قدرتنا على الفهم العميق والاختيار الذكي والتعلّم المستمر، وهنا يبدأ دور
التعليم الجامعي.
فلا بد أن يعلم
الطلاب أن الجامعة ليست مستودعاً للمعلومات بل معملاً لبناء صُنّاع الفكر والمعرفة
وقادة التحول المجتمعي. فحين نتدرّب على بناء نموذج، أو اختبار فرضية، أو قراءة
بيانات مشوّشة، فنحن لا نجمع درجاتٍ فقط؛ نحن نُعيد تشكيل عقولنا لتفكّر بمنهجية:
نعرّف المشكلة بدقّة، نفرق بين المشكلة والاعراض، نضع افتراضاتنا على الطاولة،
نتحقّق منها، ثم نتّخذ قرارًا واعيًا. قد لا نستخدم كل خوارزمية درسناها، لكننا سنستخدم
طريقة التفكير وراء كل خوارزمية:
كيف نقلّص عدم اليقين؟ ماذا يحدث لو تغيّر هذا المتغيّر قليلًا؟ ما حدود النموذج
ومتى نتوقّف عن الثقة به؟
هذا الوعي المنهجي هو جوهر الدور الحقيقي
للجامعة في صناعة الوعي الإنساني والمعرفي. فالجامعة لا تقتصر وظيفتها على نقل
المعرفة أو تلقين القوانين والمعادلات، بل تتجاوز ذلك لتغرس في طلابها القدرة على
التفكير النقدي والتحليل المنطقي واتخاذ القرار الواعي. إنها المساحة التي يتعلّم
فيها الطالب كيف يفكّر، لا بماذا يفكّر. فعندما يتعامل الطالب مع النماذج الكمية،
لا يكون الهدف حفظ الصيغ أو تطبيقها حرفياً، بل تعلّم كيفية تحويل التعقيد إلى
فهم، والبيانات إلى رؤية، والمعلومة إلى قرار. في هذا السياق، تتحول "الطرق
الكمية" من مجرد أدوات حسابية إلى بوصلة فكرية تصقل وعي الطالب وتدرّبه على
قراءة الواقع بعين ناقدة ومنهجية، فيصبح أكثر قدرة على التمييز بين الظواهر،
وتحليل الأسباب، وبناء المواقف على أسس علمية راسخة. هكذا تُسهم الجامعة في بناء
جيلٍ واعٍ، يمتلك أدوات التفكير لا مجرد معطيات المعرفة.
كما تتكوّن في الجامعة مجموعة من المعارف والمهارات العميقة التي
ترافق الطالب أينما ذهب، وتشكل جوهر شخصيته الأكاديمية والمهنية، ومن أبرزها:
·
التفكير التحليلي والمنطقي: القدرة على تفكيك المشكلات المعقّدة
وفهم مكوّناتها، ثم إعادة تركيبها برؤية منهجية بدلاً من الدوران في محيطها.
·
حلّ المشكلات واتخاذ القرار: الانتقال الواعي من ملاحظة المشكلة
إلى صياغة الفرضيات، ثم التجريب والتحليل وصولًا إلى قرارات مدروسة ومستنيرة.
·
التعلّم الذاتي الفعّال: امتلاك مهارة البحث المستقل، وتقييم
المصادر بوعي نقدي، وبناء معرفة جديدة عند الحاجة في ظل التغيرات المتسارعة.
·
فنّ طرح الأسئلة الصحيحة: لأنّ السؤال العميق والمُحكم هو نصف
الحل، وهو ما يميز العقول المفكرة عن المتلقية.
·
الأخلاق والمسؤولية المجتمعية: إذ يغرس التعليم الجامعي في الطالب
القيم الإنسانية والمهنية، ويُنمّي لديه الوعي بدوره في خدمة المجتمع والمساهمة في
رقيّه وتطوره.
فهذه ليست مهارات عابرة، بل رأسمال فكري وإنساني يرافق الخريج مدى الحياة، ويمكّنه من
مواجهة التحديات بثقة، والتفكير بعُمق، والعمل بإخلاص ومسؤولية.
لهذا أقول دائمًا لطلّابي: تعاملوا مع أي مقرر جامعي باعتباره
مختبرًا للتفكير لا مادةً للحفظ. فالمعارف والمعلومات يمكنكم دائمًا الرجوع إليها
في الكتب أو الوصول إليها عبر محركات البحث وأدوات الذكاء الاصطناعي، أما منهجية
التفكير وأساليب التعلم فهي ما يصنع الفارق الحقيقي. أن تعرفوا كيف تطرحون
الأسئلة، وكيف تناقشون وتفكّرون وتبحثون وتستنتجون — هذا هو جوهر التعليم الجامعي.
فالمعارف تتغير، والبرامج تتطور، والمهن تتبدّل، لكن من يمتلك عقلًا ناقدًا قادرًا
على التحليل والتعلّم الذاتي، يظل دائمًا الأقدر على التكيّف، والريادة، وصناعة
المستقبل.
باختصار، الجامعة لا تعدكم بأن تطبّقوا كل ما تتعلمونه حرفيًا، بل تهديكم
ما هو أثمن وأبقى: منهجية التفكير والتعلّم التي تضيء طريقكم حين تتغيّر المعطيات،
وتمنحكم القدرة على التعلّم المستمر، واستكشاف المجهول، وصناعة المعرفة، وتقديم
الحلول بإبداع ووعي. فهذا هو العائد الحقيقي من التعليم الجامعي؛ أن يغدو العقل
أداة تفكيرٍ لا وعاء حفظ، وأن يتحوّل كل سؤال إلى بداية رحلةٍ نحو الفهم والنضج،
لا إلى نهاية درسٍ في قاعة المحاضرات.