في تاسع ذي
الحجة من كل عام، يتحول جبل عرفة إلى محراب عظيم تهتز فيه القلوب، وتتضرع فيه
الأرواح، وتهفو اليه نفوس المسلمين في كل بقاع الأرض وتتجلى فيه أسمى معاني العبودية والإنسانية. إنه اليوم الذي يفيض رحمةً
وغفرانًا، ويُذكّر المؤمن والإنسانية جمعاء بدروسٍ لو وعتها القلوب لصلح حال الفرد
والمجتمع، ولعاش العالم في سلامٍ وأخوّة. ومن بعض أعظم هذه الدروس:
ان
الوقوف بعرفة هو وقفة مع النفس
عرفة، للحاج ولغيره، ليست مجرد مكان، بل لحظة
تتفتح فيها أبواب السماء، ويعلو فيها الدعاء، وتفيض فيها القلوب بالدموع والخشوع.
في هذا اليوم العظيم، يتجلى مشهد الإنسانية في أبهى صورها، ملايين الناس من شتى
بقاع الأرض، يدعون ربًا واحدًا بلغة القلب. عرفة دعوة لمراجعة الذات، وتصحيح
المسار، واستشعار عظمة الغفران، كيف لا وقد قال النبي ﷺ: "الحج عرفة"،
وكأن جوهر الرحلة كلها يتجسد في تلك الوقفة الخاشعة.
ان
التواضع هو طوق النجاة
يقف الحجيج على
صعيد عرفة بثياب بسيطة، متجردين من زينة الدنيا، متساوين في المظهر لا فرق بين غني
وفقير، أبيض وأسود، عربي وأعجمي. هذا المشهد يُعلّمنا أن القيمة الحقيقية للإنسان
ليست في ماله أو منصبه، بل في تقواه وعمله الصالح. ففي عرفة، يتذكر المؤمن أن الله
لا ينظر إلى الصور، بل إلى القلوب، وأن العظمة الحقيقية هي في الخضوع لله
والاعتراف بالضعف البشري.
لا
تيأس من طلب المغفرة والرحمة فلديك من الله دائماً فرصة ثانية
يعد الله
-سبحانه وتعالى- بأنه يُنزل مغفرته على عباده في هذا اليوم، فيغفر الذنوب ويجيب
الدعاء. هذا الدرس العظيم يُذكّرنا بأن باب التوبة مفتوح، وأن الرحمة الإلهية
واسعة، وأن الإنسان مهما بلغت أخطاؤه، فإن أمامه فرصةً للتغيير والارتقاء. فلو وعت
الإنسانية هذا المعنى، لساد التسامح بين الناس، ولتحوّل الصراع إلى حوار،
والكراهية إلى محبة.
بالوحدة
والأخوة ننجو جميعاً ونسمو
الملايين يقفون
في مكان واحد، بلباس واحد، يرددون دعاءً واحدًا: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ
لَبَّيْكَ". هذه الوحدة الروحية العظيمة تعلّمنا أن الاختلافات العرقية
واللغوية والثقافية لا يجب أن تفرقنا، بل إن الإيمان والقيم المشتركة يمكن أن
تجمعنا تحت مظلة الإنسانية الواحدة. لو تعلّمت البشرية من وقفة عرفة، لعرفت أن
التعايش ممكن، وأن السلام حقيقةٌ يمكن تحقيقها إذا توحدت القلوب في الخير.
عش
بالرجاء والأمل: فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
في عرفة، يرفع
المؤمنون أيديهم بالدعاء، متضرعين إلى الله بكل ما في قلوبهم من آمال وآلام. هذا
الموقف يُعلّمنا أن الأمل لا ينقطع، وأن الدعاء سلاح المؤمن. فالإنسان -في أصعب
لحظاته- يجب أن يلجأ إلى خالقه، ويوقن بأن هناك قوةً عظمى تستجيب له وتعينه. لو
أدرك كل إنسان هذه الحقيقة، لَعاش بقلبٍ مطمئن، ولَما استسلم لليأس أبدًا.
أدم
العطاء وعزز التضامن: فلا يكتمل الإيمان إلا بالحب للآخرين
ومن أعظم دروس
يوم عرفة أن الحج ليس فقط شعائر فردية، بل هو تذكيرٌ بالمسؤولية تجاه الآخرين.
فالصيام المستحب لغير الحاج في هذا اليوم ليس للتعبّد فحسب، بل ليشعر الغني بجوع
الفقير، وليتذكر الإنسان أن الإيمان يقتضي الإحسان. لو طبقت الإنسانية هذا الدرس،
لانتهى الفقر، ولتحولت الثروات من التكديس إلى العطاء، ولأصبح العالم مكانًا أكثر
عدلًا.
ان
يوم عرفة فرصتك لتجديد ايمانك وتنقية ضميرك
إن يوم عرفة ليس
فقط لمن يقف على جبل الرحمة، بل هو رسالة لكل إنسان يؤمن بالله، أو يؤمن بالقيم
الإنسانية. إنه يومٌ يُجدد الإيمان في القلوب، ويوقظ الضمائر، ويُذكرنا بأننا
جميعًا عباد لله، وأن حياتنا يجب أن تكون سعيًا نحو الخير والفضيلة. فليكن يوم عرفة بدايةً لتغيير
حقيقي في قلوبنا، وفي علاقاتنا، وفي عالمنا. فإن صلح القلب، صلح كل شيء. وما يزال
الله يغرس في هذا اليوم أرواحًا جديدة، ويُحيي قلوبًا كانت ميتةً بالذنوب، لتعود
نقيةً كما ولدتها أمهاتها.
" لا اله الا الله وحده لا شريك له ، له
الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"
اللهم اجعلنا ممن يُغفر لهم في هذا اليوم، ويُعتق من النار،
وتقبل منا صالح الأعمال. آمين.